الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: زاد المسير في علم التفسير ***
{وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ (21) إِذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُودَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قَالُوا لَا تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلَا تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ (22) إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ (23) قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ (24) فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآَبٍ (25) يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ (26)} قوله تعالى: {وهل أتاكَ نبأ الخَصْمِ} قال أبو سليمان: المعنى: قد أتاكَ فاسْتَمِعْ له نَقْصُصْ عليكَ. واختلف العلماء في السبب الذي امتُحِن لأجْله داوُد عليه السلام بما امتُحن به، على خمسة أقوال: أحدها: أنه قال: ياربِّ قد أعطيتَ إبراهيم وإسحاق ويعقوب من الذِّكْر ما لو ودِدْتُ أنَّك أعطيتني مِثْلَه، فقال الله تعالى: إِنِّي ابتليتُهم بما لم أَبْتَلِكَ به، فإن شئت ابتليتُكَ بِمثْلِ ما ابتليتُهم به وأعطيتُك كما أعطيتُهم. قال: نعم. فبينما هو في محرابه إذ وقعتْ عليه حمامة فأراد أن يأخذها فطارت، فذهب ليأخذها، فرأى امرأة تغتسل، رواه العوفي عن ابن عباس، وبه قال السدي. والثاني: أنه مازال يجتهد في العبادة حتى بَرَزَ له قرناؤه من الملائكة وكانوا يصلُّون معه ويُسْعِدونه بالبُكاء، فلمّا استأنس بهم، قال: أَخْبِروني بأيِّ شيء أنتم موكَّلون؟ قالوا: مانَكْتُب عليكَ ذَنْباً، بل نكتب صالح عملك ونثبِّتُك ونوفِّقُك ونَصْرِف عنك السُّوء. فقال في نفسه: ليت شِعري، كيف أكون لو خلّوني ونفسي، وتمنَّى أن يُخَلّى بينه وبين نفسه ليَعْلَم كيف يكون، فأمر اللهُ تعالى قُرَناءَه أن يعتزلوه ليَعْلَم أنه لا غَناءَ به عن الله [عزوجل، فلما فقدهم، جَدَّ واجتهد ضِعْفَ عبادته إلى أن ظَنَّ أنه قد غَلَب نَفْسَه، فأراد اللهُ تعالى] أن يُعَرِّفَه ضَعْفَه، فأَرسَل إِليه طائراً من طيور الجنة، فسقط في محرابه، فقطع صلاته ومَدَّ يده إليه، فتنحّى عن مكانه، فأَتْبَعَه بَصَرَه، فإذا امرأة أوريا، هذا قول وهب بن منبّه. والثالث: أنه تَذاكرَ هو وبنو إسرائيل، فقالوا: هل يأتي على الإنسان يوم لا يصيب فيه ذَنْباً؟ فأضمر داودُ في نفسه أنه سيُطيق ذلك، فلمّا كان يوم عبادته، أغلق أبوابه وأَمَرَ أن لا يدخُل عليه أحد وأكبَّ على قراءه الزَّبور، فإذا حمامة من ذهب، فأهوى إليها فطارت، فتَبِعها فرأى المرأة، رواه مطر عن الحسن. والرابع: أنه قال لبني إسرائيل حين ملك: واللهِ لأَعْدِلَنَّ بينكم، ولم يستثن، فابتُليَ. رواه قتادة عن الحسن. والخامس: أنه أعجبه كثرة عمله، فابتُليَ، قاله أبو بكر الورّاق. الإِشارة إلى قصة ابتلائه: قد ذكرنا عن وهب أنه قال: كانت الحمامة من طيور الجنة، وقال السدي: تصوَّر له الشيطان في صورة حمامة. قال المفسرون: إِنه لمّا تبع الحمامة، رأى امرأة في بستان على شطِّ بِرْكَة لها تغتسل، وقيل: بل على سطح لها، فعجب من حسنها، فحانت منها التفاته فرأت ظِلَّه فنقضت شعرها، فغطىّ بدنها، فزاده ذلك إِعجاباً بها، فسأل عنها، فقيل: هذه امرأة أوريا، وزوجها في غزاة، فكتب داود إلى أمير ذلك الجيش أن ابعث أوريا إلى موضع كذا وكذا، وقدِّمه قبل التابوت، وكان مَنْ قُدِّم على التابوت لا يَحِلُّ له أن يرجع حتى يُفْتَح عليه أو يستشهد، ففعل ذلك، ففُتِح عليه، فكتب إلى داود يخبره فكتب إليه أن ابعثه إِلى عدوِّ كذا وكذا، ففُتح له، فكتب إليه أن ابعثه إِلى عدو كذا وكذا، فقُتل في المرَّة الثالثة، فلمّا انقضت عِدَّة المرأة تزوَّجها داوُد فهي أُمُّ سليمان، فلمّا دخل بها، لم يلبث إلا يسيراً حتى بعث اللهُ عز وجل مَلَكين في صورة إنسيَّين، وقيل: لم يأته المَلَكان حتى جاء منها سليمان وشَبَّ، ثم أتياه فوجداه في محراب عبادته، فمنعهما الحرس من الدُّخول إليه، فتسوروا المحراب عليه؛ وعلى هذا الذي ذكرناه من القصة أكثر المفسرين، وقد روى نحوه العوفي عن ابن عباس، وروي عن الحسن، وقتادة، والسدي، ومقاتل في آخرين، وذكر جماعة من المفسرين أن داوُد لمّا نظر إلى المرأة، سأل عنها، وبعث زوجَها إلى الغَزاة مَرَّة بعد مَرَّة إلى أن قُتل، فتزوََّجَها؛ وروي مِثْلُ [هذا] عن ابن عباس، ووهب، والحسن في جماعة. قال المصنِّف: وهذا لا يصح من طريق النقل، ولا يجوز من حيث المعنى، لأن الأنبياء منزَّهون عنه. وقد اختلف المحقِّقون في ذَنْبه الذي عُوتب عليه على أربعة أقوال: أحدها: أنه لمَا هَويهَا، قال لزوجها: تحوَّل لي عنها، فعُوتب على ذلك. وقد روى سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: مازاد داوُد على أن قال لصاحب المرأة: أكْفِلْنِيهَا وتحوّلْ لي عنها؛ ونحو ذلك روي عن ابن مسعود. وقد حكى أبو سليمان الدمشقي أنه بعث إلى أوريا فأقدمه من غَزاته، فأدناه وأكرمه جدّاً، إلى أن قال له يوماً: أنْزِلْ لي عن امرأتك، وانظُر أيَّ امرأة شئتَ في بني إسرائيل أزوِّجكها، أو أيَّ أَمَةٍ شئتَ أبتاعُها لكَ، فقال: لا أُريد بامرأتي بديلاً، فلمّا لم يُجِبْه إِلى ما سأل أمَرَه أن يَرْجِع إلى غَزاته. والثاني: أنه تمنّى تلك المرأة حلالاً، وحدَّث نفسه بذلك، فاتفق غزوُ أوريا وهلاكُه من غير أن يسعى في سبب قتله، ولا في تعريضه للهلاك، فلمّا بلغة قتلُه، لم يَجْزَعْ عليه كما جَزِع على غيره مِنْ جُنْده، ثُمَّ تزوَّج امرأتَه، فعُوتب على ذلك، وذُنوبُ الأنبياء عليهم السلام وإن صَغُرَتْ، فهي عظيمةٌ عند الله عز وجل. والثالث: أنه لمّا وقع بصرُه عليها، أشبع النَّظر إليها حتى عَلِقَتْ بقلبه. والرابع: أن أوريا كان قد خطب تلك المرأة، فخطبها داودُ مع عِلْمه بأن أوريا قد خطبها فتزوَّجَها، فاغتمَّ أوريا، وعاتب اللهُ تعالى داوَُدَ، إذْ لم يترُكْها لخاطبها الأوَّل، واختار القاضي أبو يعلى هذا القول، واستدل عليه بقوله {وعَزَّني في الخِطاب} قال: فدلَّ هذا على أن الكلام إنما كان بينهما في الخِطْبة، ولم يكن قد تقدَّم تزوُّج الآخَر، فعُوتب داوُدُ عليه السلام لشيئين ينبغي للأنبياء التَّنَزُّه عنهم،: أحدهما: خِطْبته على خِطْبته غيره. والثاني: إِظهار الحِرْص على التزويج مع كثرة نسائه، ولم يعتقد ذلك معصية، فعاتبه الله تعالى عليها؛ قال: فأما مارُوي أنه نظر إِلى المرأة فهَويَها وقدَّم زَوْجَها للقتل، فإنه وجهٌ لا يجوز على الأنبياء، لأن الأنبياء لا يأتون المعاصي مع العِلْم بها. قال الزجاج: إنما قال {الخَصْمِ} بلفظ الواحد، وقال {تَسَوَّرُوا المِحْرابَ} بلفظ الجماعة، لأن قولك: خصم، يَصْلحُ للواحد والاثنين والجماعة، والذكر والأنثى. تقول: هذا خصم وهي خصم، وهما خصم، وهم خصم؛ وإنما يصلح لجميع ذلك لأنه مصدر تقول: خَصَمْتُه أَخْصِمُه خَصْماً. والمحراب هاهنا كالغُرفة، قال الشاعر: رَبَّةُ مِحْرابٍ إِذا جِئْتُها *** لَمْ ألْقَها أَوْ أرَتَقي سُلَّماً و {تسوّروا} يدل على علوّ. قال المفسرون: كانا مَلَكين، وقيل: هما جبريل وميكائيل عليهما السلام، أتياه لينبِّهاه على التوبة، وإنما قال {تسوَّروا} وهما اثنان، لأن معنى الجمع ضمُّ شيء إلى شيء، والاثنان فما فوقهما جماعة. قوله تعالى: {إِذْ دَخَلُوا على داوُدَ} قال الفراء: يجوز أن يكون معنى «تسوَّرُوا»: دَخَلوا، فيكون تكراراً. ويجوز أن تكون {إذ} بمعنى «لمّا» فيكون المعنى إذ تسوَّروا المحراب لمّا دَخَلوا، ولمّا تسوَّروا إِذ دخلوا. قوله تعالى: {ففَزع منهم} وذلك أنهما أتيا على غير صفة مجيء الخُصوم، وفي غير وقت الحُكومة، ودخلا تَسَوُّراً من غير إذن. وقال أبو الأحوص: دَخَلا عليه وكُلُّ واحد منهما آخذٌ برأس صاحبه. و{خَصْمانِ} مرفوع بإضمار «نَحْنُ»، قال ابن الأنباري: [المعنى]: نحن كخصمين، ومِثْلُ خصمين، فسقطت الكاف، وقام الخصمان مقامها، كما تقول العرب: عبد الله القمرُ حُسْناً، وهم يريدون: مِثْل القمر، قالت هند بنت عتبة ترثي أباها وعمَّها: مَنْ حَسَّ لِي الأخَوَيْنِ كال *** غُصْنَيْنِ أَوْ مَنْ راهُما أسَدَيْنِ في عِيلٍ يَحِيدُ ال *** قَوْمُ عَنْ عُرْواهُما صَقْرَيْنِ لا يَتَذَلَّلا *** نِ ولا يُباحُ حِماهُما رُمْحَيْنِ خَطِّيِّيْنِ في *** كَبِدِ السَّماءِ تَراهُما أرادت: مِثْل أسدين، ومثل صقرين، فأسقطت مِثْلاً وأقامت الذي بعده مقامه، ثم صرف اللهُ عز وجل النون والألف في «بَعْضُنا» إلى «نحن» المضمر، كما تقول العرب: نحن قوم شَرُف أبونا، ونحن قوم شَرُف أبوهم. والمعنى واحد. والحق هاهنا: العدل. {ولا تُشْطِطْ} أي: لا تَجُرْ، يقال: شَطَّ وأَشَطَّ إذا جار. وقرأ ابن أبي عبلة {ولا تَشْطُطْ} بفتح التاء وضم الطاء. قال الفراء: وبعض العرب يقول: شَطَطْتَ عليَّ في السَّوْم، وأكثر الكلام «أشططتَ» بالألف، وشَطَّت الدّارُ: تباعدتْ. قوله تعالى: {واهْدِنا إِلى سَواءِ الصِّراطِ} أي: إلى قَصْد الطَّريق؛ والمعنى: احْمِلْنا على الحق، فقال داوُد: تَكَلَّما، فقال أحدُهما: {إنَّ هذا أخي} قال ابن الأنباري: المعنى: قال أحد الخصمين اللَّذين شُبِّه المَلَكان بهما: إنَّ هذا أخي، فأضمر القول لوضوح معناه {له تِسْعٌ وتِسعونَ نَعْجَةً} قال الزجاج: كُني عن المرأة بالنَّعْجة، وقال غيره: العرب تشبِّه النِّساء بالنعاج، وتورِّي عنها بالشاء والبقر. قال ابن قتيبة: ورّى عن ذِكر النساء بذِكر النعاج، كما قال عنترة: ياشاةَ ما قَنْصٍ لِمَنْ حَلَّتْ لَهُ *** حَرُمَتْ عَلَيَّ ولَيْتَها لَمْ تَحْرُمِ يعرِّض بجارية يقول: أيّ صيد أنتِ لِمَنْ حَلَّ له أن يَصيدَكِ! فأمّا أنا، فإنَّ حُرْمَةَ الجوار قد حرَّمْتكِ عَلَيَّ. وإِنما ذَكرَ المَلَكُ هذا العدد لأنه عدد نساء داوُد. قوله تعالى: {وَلِيَ نَعْجَةٌ واحدةٌ} فتح الياء حفص عن عاصم وأسكنها الباقون. {فقال أكْفِلْنِيها} قال ابن قتيبة: أي: ضُمَّها إِليّ واجعلْني كافِلَها. وقال الزجاج: انْزِلْ أنتَ عَنها واجعلْني أنا أَكْفُلُها. قوله تعالى: {وعَزَّني في الخطاب} أي: غَلَبني في القول. وقرأ عمر بن الخطاب، وأبو رزين [العقيلي]، والضحاك، وابن يعمر، وابن أبي عبلة: {وعَازَّنِي} بألف، أي: غالبَنَي. قال ابن مسعود، وابن عباس في قوله {وعَزَّني في الخطاب}: ما زاد على أن قال: انْزِلْ لي عنها. وروى العوفي عن ابن عباس قال: إن دعوتُ ودعا كان أكثر، وإن بَطَشْتُ وبَطَشَ كان أَشدَّ مني. فإن قيل: كيف قال المَلَكان هذا، وليس شيء منه موجوداً عندهما؟ فالجواب: أن العلماء قالوا: إنما هذا على سبيل المَثَل والتشبيه بقصة داوُد، وتقدير كلامهما: ما تقولُ إن جاءك خصمان فقالا كذا وكذا؟ وكان داوُد لا يرى أن عليه تَبِعَةً فيما فَعَلَ فنبَّهه اللهُ بالمَلَكين. وقال ابن قتيبة: هذا مَثَل ضربه اللهُ [له] ونبًّهه على خطيئته. وقد ذكرنا آنفاً أن المعنى: نحنُ كخَصْمَين. قوله تعالى: {قال} يعني داود {لقد ظَلَمَكَ بسؤال نَعْجتكَ إِلى نِعاجهِ} قال الفراء: أي: بسؤاله نعجتك، فإذا ألقيتَ الهاء من السؤال، أضفتَ الفعل إِلى النَّعْجة، ومِثْلُه: {لا يَسْأَمُ الإِنسانُ مِنْ دُعَاءِ الخَيْرِ} [فصلت: 49] أي: من دعائه بالخير، فلمّا ألقى الهاء، أضاف الفعل إِلى الخير، وألقى من الخير الباء، وأنشدوا: فَلَسْتُ مُسَلِّماً ما دُمْتُ حَيّاً *** على زَيْدٍ بتسليمِ الأميرِ أي: بتسليم على الأمير. قوله تعالى: {إلى نِعاجه} أي: لِيَضُمَّها إلى نِعاجه. قال ابن قتيبة: المعنى بسؤال نعجتك مضمومةً إِلى نعاجه فاختُصر. قال: ويقال «إلى» بمعنى «مع». فإن قيل: كيف حكم داود قبل أن يَسمع كلامَ الآخر؟ فالجواب: أن الخصم الآخر اعترف، فحكم عليه باعترافه، وحذف ذِكر الاعتراف اكتفاءً بفهَم السامع. والعرب تقول: أمرتُك بالتجارة فكسبتَ الأموال، أي فاتجَّرتَ فكسبتَ. ويدُلُّ عليه قولُ السدي: إِن داوُد قال للخصم الآخر: ما تقول؟ قال: نعم، أريد أن آخذها منه فأُكمل بها نعاجي وهو كاره. قال: إِذاً لا ندعُك وإِن رُمْتَ هذا ضربْنا منكَ هذا ويشير إلى أَنْفه وجبهته فقال: أنت ياداوُدُ أَحَقُّ أن يُضرب هذا منكَ حيث لك تسع وتسعون امرأة، ولم يكن لأوريا إِلا واحدة، فنظر داوُد فلم ير أحداً فعَرَف ما وقع فيه. قوله تعالى: {وإِنَّ كثيراً من الخُلَطاءِ} يعني الشركاء، واحدهم: خليط، وهو المُخالِط في المال. وإِنما قال هذا، لأنه ظنَّهما شريكين، {إِلاّ الذين آمنوا} أي: فإنهم لا يَظْلِمون أحداً، {وقليلٌ ماهم} «ما» زائدة، والمعنى: وقليل هم. وقيل المعنى: هم قليل، يعني الصالحين الذين لا يَظلِمونَ. قوله تعالى: {وظَنَّ داوُدُ} أي: أيقن وعَلِم {أنَّما فَتَنَّاه} فيه قولان: أحدهما: اختبرناه. والثاني: ابتليناه بما جرى له من نظره إلى المرأة وافتتانه بها. وقرأ عمر بن الخطاب {أنّما فتَّنَّاهُ} بتشديد التاء والنون جميعاً. وقرأ أنس بن مالك، وأبو رزين، والحسن، وقتادة، وعليّ بن نصر عن أبي عمرو: {أنَّما فَتَنَاهُ} بتخفيف التاء والنون جميعاً، يعني المَلَكين. قال أبو علي الفارسي: يريد صَمَدا له. وفي سبب عِلْمه وتنبيهه على ذلك ثلاثة أقوال: أحدها: أن المَلَكين أفصحا له بذلك، على ماذكرناه عن السدي. والثاني: أنهما عَرَّجا وهما يقولان: قضى الرجلُ على نفسه، فعَلِم أنه عُني بذلك، قاله وهب. والثالث: أنه لمَا حكم بينهما، نظر أحدُهما إِلى صاحبه وضحك، ثم صَعِدا إِلى السماء وهو ينظُر، فعلم أن الله تعالى ابتلاه بذلك، قاله مقاتل. قوله تعالى: {فاستغْفَرَ ربَّه} قال المفسرون: لمّا فطن داوُدُ بذَنْبه خَرّ راكعاً. قال ابن عباس: أي: ساجداً. وعبَر عن السجود بالركوع، لأنهما بمعنى الانحناء. وقال بعضهم: المعنى: فخَرَّ بعد أن كان راكعاً. فصل واختلف العلماء هل هذه من عزائم السجود؟ على قولين: أحدهما: ليست من عزائم السجود، قاله الشافعي. والثاني: أنها من عزائم السجود، قاله أبو حنيفة. وعن أحمد روايتان. قال المفسرون: فبقي في سجوده أربعين ليلة، لا يرفع رأسه إلاّ لوقت صلاة مكتوبة أو حاجة لا بُدَّ منها، ولا يأكل ولا يشرب، فأكلتِ الأرضُ من جبينه، ونَبَتَ العُشْبُ من دموعه، ويقول في سجوده: ربَّ داود زَلَّ داودُ زَلَّة أبعدَ ممّا بين المشرق والمغرب. قال مجاهد: نبت البقلُ من دموعه حتى غطَّى رأسَه ثم نادى: ربِّ قَرِح الجبين وجَمَدت العينُ وداوُدُ لم يَرْجِع إِليه في خطيئته شيء، فنودي أجائع فتُطْعَم، أم مريض فتُشْفَى أم مظلومٌ فيُنتصَر لك؟ فنَحَبَ نَحيباً هاج كلَّ شيء نَبَتَ، فعند ذلك غفر له. وقال ثابت البناني: اتخذ داوُدُ سبع حشايا من شَعْر وحشاهُنَّ من الرَّماد، ثم بكى حتى أنفذها دموعاً، ولم يشرب شراباً إلا ممزوجاً بدموع عينيه. وقال وهب بن منبه: نودي: يا داود ارفع رأسك فإنّا قد غَفَرْنا لكَ، فرفع رأسه وقد زَمِن وصار مرعشاً. فأمّا قوله: {وأنابَ} فمعناه: رَجَع مِنْ ذَنْبه تائباً إلى ربِّه، {فَغَفَرْنا له ذلكَ} يعني الذَّنْب {وإِنّ له عِنْدَنا لَزُلْفَى} [قال ابن قتيبة]: أي: تقدَّمُ وقُرْبة. قوله تعالى: {وحُسْنَ مَآبٍ} قال مقاتل: حُسْن مَرْجِع، وهو ما أعدَّ الله له في الجنة. قوله تعالى: {يا داوُُدُ} المعنى: وقلنا له يا داود {إِنَّا جَعَلْناكَ} أي: صيّرْناكَ {خليفةً في الأرض} أي: تُدَبِّرُ أَمْرَ العباد مِنْ قِبَلنا بأمرنا، فكأنك خليفة عنّا {فاحْكُم بين الناس بالحق} أي: بالعدل {ولا تَتَّبِعِ الهوى} أي: لا تَمِلْ مع ما تشتهي إِذا خالف أَمْرَ الله عز وجل {فيُضِلَّكَ عن سبيل الله} أي: عن دينه {إنَّ الذين يَضِلُّونَ} وقرأ أبو نهيك، وأبو حيوة، وابن يعمر: {يُضِلُّونَ} بضم الياء. قوله تعالى: {بما نَسُوا يومَ الحساب} فيه قولان: أحدهما: بما تَرَكُوا العمل ليوم الحساب، قاله السدي. قال الزجاج: لمّا تركوا العمل لذلك اليوم، صاروا بمنزلة الناسين. والثاني: أن في الكلام تقديماً وتأخيراً، تقديره: لهم عذاب شديد يومَ الحساب بما نَسُوا أي: تَرَكُوا القضاء بالعدل، وهو قول عكرمة.
{وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ (27) أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ (28) كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آَيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ (29)} قوله تعالى: {وما خَلَقْنا السماءََ والأَرْضَ وما بينهما باطلاً} أي: عَبَثاَ {ذلكَ ظَنُّ الذين كَفَروا} أن ذلك خُلِقَ لِغَيْرِ شيء، وإنما خُلِقَ للثواب والعقاب. {أَمْ نَجْعَلُ الذين آمنوا} قال مقاتل: قال كفار قريش للمؤمنين: إنّا نُعْطَى في الآخرة مثل ما تُعْطَوْن. فنزلت هذه الآية. وقال ابن السائب: نزلت في الستة الذين تبارزوا يوم بدر، عليٍّ رضي الله عنه، وحمزة رضي الله عنه، وعبيدة بن الحارث رضي الله عنه، وعتبة، وشيبة، والوليد بن عتبة، فذكر أولئك بالفساد في الأرض لِعَمَلهم فيها بالمعاصي، وسمَّى المؤمنين بالمتَّقِين لاتِّقائهم الشِّرك. وحُكْمُ الآية عامٌّ. قوله تعالى: {كتابُ} أي: هذا كتاب، يعني القرآن، وقد بيَّنّا معنى بَرَكَته في سورة [الأنعام: 92]. {لِيَدَّبَروا آياتِه} وقرأ عاصم في رواية: {لِتَدَبَّروا آياتِه} بالتاء خفيفة الدال، أي: ليتفكروا فيها فيتقرر عندهم صِحَّتُها {ولِيَتَذَكَّرَ} بما فيه من المواعظ {أُولُو الألباب} وقد سبق بيان هذا [الرعد: 19].
{وَوَهَبْنَا لِدَاوُودَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (30) إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ (31) فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ (32) رُدُّوهَا عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحًا بِالسُّوقِ وَالْأَعْنَاقِ (33) وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ (34) قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (35) فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ (36) وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ (37) وَآَخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ (38) هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ (39) وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآَبٍ (40) وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ (41) ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ (42) وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ (43) وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلَا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (44)} قوله تعالى: {نِعْمَ العَبْدُ} يعني به سليمان. وفي الأوّاب أقوال قد تقدمت في [بني إسرائيل: 25] ألْيَقُها بهذا المكان أنه رَجّاعٌ بالتَّوبة إِلى الله تعالى ممّا يقع منه من السَّهو والغَفْلة. قوله تعالى: {إِذ ُعِرضَ عليه بالعَشيّ} وهو ما بعد الزَّوال {الصّافناتُ} وهي الخيل. وفي معنى الصّافنات قولان. أحدهما: أنها القائمة على ثلاث قوائم، وقد أقامت الأخرى على طرف الحافر من يد أو رِجْل؛ وإِلى هذا المعنى ذهب مجاهد، وابن زيد، واختاره الزجاج، وقال: هذا أَكثرُ قيام الخيل إذا وقفت كأنَّها تراوح بين قوائمها. قال الشاعر: أَلِفَ الصُّفُونَ فما يَزالُ كأنَّهُ *** مِمّا يَقومُ على الثَّلاثِ كَسِيرا والثاني: أنها القائمة، سواء كانت على ثلاث أو غير ثلاث. قال الفراء: على هذا رأيت العرب وأشعارهم تَدُلُّ على أنه القيام خاصة. وقال ابن قتيبة: الصافن في كلام العرب الواقفُ من الخيلِ وغيرها، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: «مَنْ سَرَّه أن يقومَ له الرجلُ صُفُوناً، فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النّار»، أي: يُديمون القيام له. فأمّا الجِيادُ، فهي السِّراعُ في الجَرْيِ. وفي سبب عرضها عليه أربعة أقوال: أحدها: أنه عَرَضَها لأنه أراد جهاد عدوٍّ له، قاله عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه. والثاني: أنها كانت من دوابّ البحر. قال الحسن: بلغني أنها كانت خيلاً خرجتْ من البحر لها أجنحة. وقال إبراهيم التيمي: كانت عشرين فرساً ذات أجنحة. وقال ابن زيد: أخرجتْها له الشياطين من البحر. والثالث: أنه وَرِثَها من أبيه داود عليه السلام، فعُرِضَتْ عليه، قاله وهب بن منبّه ومقاتل. والرابع: أنه غزا جيشاً، فظَفِر به وغنمها، فدعا بها فعُرضَتْ عليه، قاله ابن السائب. وفي عددها أربعة أقوال: أحدها: ثلاثة عشر ألفاً، قاله وهب. والثاني: عشرون ألفاً، قاله سعيد بن مسروق. والثالث: ألف فرس، قاله ابن السائب، ومقاتل. والرابع: عشرون فرساً، وقد ذكرناه عن إبراهيم التيمي. قال المفسرون: ولم تزل تُعْرَض عليه إِلى أن غابت الشمس، ففاتته صلاة العصر، وكان مَهِيباً لا يبتدئه أحد بشيء، فلم يذكِّروه، ونسي هو، فلمّا غابت الشمسُ ذكر الصلاة، {فقال إِنِّي أَحْبَبْتُ} فتح الياء أهل الحجاز وأبو عمرو {حُبَّ الخَيْرِ} وفيه قولان: أحدهما: أنه المال، قاله سعيد بن جبير، والضحاك. والثاني: حُبُّ الخيل، قاله قتادة، والسدي. والقولان يرجعان إلى معنى واحد، لأنه أراد بالخير الخيلَ، وهي مال. وقال الفراء: العرب تسمِّي الخيل: الخير. قال الزجاج: وقد سمَّى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم زَيْدَ الخيل: زَيْدَ الخير، ومعنى «أَحَبْبْتُ» آثرتُ حُبَّ الخَيْر على ذِكْر ربِّي؛ وكذلك قال غير الزجاج. «عن» بمعنى «على». وقال بعضهم: يحتمل المعنى فشَغَلَني عن ذِكْر ربِّي. قال أبو عبيدة: ومعنى [الكلام] أَحْبَبْتُ حُبّاً، ثم أضاف الحُبَّ إلى الخير. وقال ابن قتيبة: سمَّى الخَيْل خَيْراً، لما فيها من الخَيْر. والمفسرون على أن المراد بذِكْر ربِّه، صلاةُ العصر، قاله عليّ، وابن مسعود، وقتادة في آخرين. وقال الزجاج: لا أدري هل كانت صلاةُ العصر مفروضةً أم لا!، إلا أنّ اعتراضه الخيل شَغَلَه عن وقتٍ كان يذكُر الله فيه {حتى توارت بالحجاب} قال المصنف: وأهل اللغة يقولون: يعني الشمس، ولم يَْرِ لها ذِكْر ولا أحسبهم أعطَوا في هذا الفِكْر حَقَّه، لأن في الآية دليلاً على الشمس، وهو قوله {بالعشيِّ} ومعناه: عُرِضَ عليه بعد زوال الشمس حتى توارت الشمس بالحجاب، ولا يجوز الإِضمار، إلا أن يجريَ ذِكْر أو دليل ذِكْر فيكون بمنزلة الذِّكْر، وأما الحِجَاب، فهو ما يحجُبها عن الأبصار. قوله تعالى: {رُدُّها عَلَيَّ} قال المفسرون: لمّا شغله عَرْضُ الخَيْل عليه عن الصلاة، فصلاّها بعد خروج وقتها، اغتمَّ وغضب، وقال: " رُدُّوها عَلَيَّ "، يعني: أعيدوا الخَيْل عَلَيَّ {فطَفِقَ} قال ابن قتيبة: أي: أقبل {مَسْحاً} قال الأخفش: أي: يَمْسَحُ مَسْحاً. فأمّا السُّوق، فجمع ساق، مثل دُور ودار، وهمز السُّؤق ابن كثير، قال أبو علي: وغيرُ الهمز أحسنُ منه. وقرأ أبو عمران الجوني، وابن محيصن: " بالسُّؤوق " مثل الرُّؤوس، وفي المراد بالمسح هاهنا ثلاثة أقوال. أحدها: أنه ضربها بالسيف، " وروى أُبيُّ بن كعب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله: {فطَفِقَ مَسْحاً بالسُّوق والأعناق} قال: «بالسيف» " وروى مجاهد عن ابن عباس قال: مسح أعناقها وسوقها بالسيف. وقال الحسن، وقتادة، وابن السائب: قطع أعناقها وسُوقها، وهذا اختيار السدي، ومقاتل، والفراء، وأبي عبيدة، والزجاج، وابن قتيبة، وأبي سليمان الدمشقي، والجمهور. والثاني: أنه جعل يمسح أعراف الخيل وعراقيبها حُبّاً لها، رواه عليّ بن أبي طلحة عن ابن عباس. وقال مجاهد: مسحها بيده، وهذا اختيار ابن جرير والقاضي أبي يعلى. والثالث: أنه كَوَى سُوقها وأعناقها وحبسها في سبيل الله تعالى، حكاه الثعلبي. والمفسِّرون: على القول الأول. وقد اعترضوا [على] القول الثاني، وقالوا: أيّ مناسبة بين شغْلِها إيّاه عن الصلاة وبين مَسْح أعرافها حُبّاً لها؟!، ولا أعلم قوله: " حُبّاً لها " يثبت عن ابن عباس. وحملوا قول مجاهد " مَسَحها بيده " أي تولىَّ ضَرْبَ أعناقها. فإن قيل: فالقول الأول يفسُد بأنه لا ذَنْب للحيوان، فكيف وجّه العقوبة إليه؟ وقصد التَّشفِّي بقتله، وهذا يشبه فِعْلَ الجبّارِين، لا فِعْلَ الأنبياء؟ فالجواب: أنه لم يكن لِيَفْعَلَ ذلك إلا وقد أُبيح له، وجائز أن يُباح له ما يُمنَع منه في شرعنا، على أنه إذا ذبحها كانت قرباناً، وأكلُ لحمها جائز، فما وقع تفريط. قال وهب بن منبّه: لمّا ضَرَبَ سوقها وأعناقها، شكر اللهُ تعالى له ذلك، فسخَّر له الرِّيح مكانها، وهي أحْسَنُ في المنظر، وأَسْرَعُ في السَّيْر، وأَعْجَبُ في الأُحْدُوثة. قوله تعالى: {ولقد فَتَنّا سُلَيْمانَ} أي: ابتليناه وامْتَحَنّاه بِسَلْبِ مُلْكه {وأَلْقَيْنا على كُرْسِيِّه} أي: على سريره {جَسَداً} وفيه قولان: أحدهما: أنه شيطان، قاله ابن عباس، والجمهور. وفي اسم ذلك الشيطان ثلاثة أقوال: أحدها: صخر، رواه العوفي عن ابن عباس. وذكر العلماء أنه كان شيطاناً مَرِيداً لم يُسَخَّر لسليمان. والثاني: آصف، قاله مجاهد، إلاّ أنه ليس بالمُؤْمِن الذي عنده الاسم الأعظم، إِلاّ أنّ بعض ناقِلِي التفسير حكى أنه آصف الذي عنده عِلْمٌ من الكتاب، وأنه لمّا فُتن سليمان سقط الخاتم من يده فلم يثبُت، فقال آصف: أنا أقوم مقامَك إِلى أن يتوبَ الله عليك، فقام في مقامه، وسار بالسِّيرة الجميلة، وهذا لا يَصِحُّ، ولا ذكره مَنْ يوثَق به. والثالث: حبقيق، قاله السدي، والمعنى: أجلسْنا على كرسيِّه في مُلْكه شيطاناً. {ثم أناب} أي: رَجَع. وفيما رجع إِليه قولان: أحدهما: تاب من ذَنْبه، قاله قتادة. والثاني: رَجَع إَلى مُلْكه، قاله الضحاك. وفي سبب ابتلاء سليمان بهذا خمسة أقوال: أحدها: أنه كانت له امرأة يقال لها: جرادة، وكان بين بعض أهلها وبين قوم خصومة، فقضى بينهم بالحق، إلا أنه وَدَّ أن الحق كان لأهلها، فعوقب حين لم يكن هواه فيهم واحداً، وأوحى اللهُ تعالى إِليه أنه سيُصيبك بلاءٌ، فكان لا يدري أيأتيه من السماء، أو من الأرض. رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس. والثاني: أن زوجته جرادة كانت آثَرَ النِّساءِ عنده، فقالت له يوماً: إن أخي بينه وبين فلان خصومة، وإنِّي أُحِبُ أن تَقْضِيَ له، فقال: نعم، ولم يفعل فابتُليَ لأجل ما قال، قاله السدي. والثالث: أن زوجته جرادة كان قد سباها في غَزاةٍ له، وكانت بنتَ مَلِك فأسلمتْ، وكانت تبكي عنده بالليل والنهار، فسألها عن حالها، فقالت: أذْكُر أبي وما كنتُ فيه، فلو أنك أَمَرْتََ الشياطين فصوروا صورته في داري فأتسلىَّ بها، [ففعل]، فكانت إذا خرج سليمان، تسجد له هي وولائدها [أربعين صباحاً، فلمّا عَلِم سليمان، كسر تلك الصورة، وعاقب المرأة وولائدها] ثم تضرَّع إِلى الله تعالى مستغفراً ممّا كان في داره، فسُلِّط الشيطانُ على خاتمه، [هذا قول وهب بن منبّه. والرابع: أنه احتجب عن الناس ثلاثة أيام، فأوحى اللهُ تعالى إِليه: ياسليمان، احتجبتَ عن الناس ثلاثةَ أيّام، فلم تنظرُ في أُمور عبادي ولم تُنْصِف مظلوماً من ظالم؟! فسلّط الشيطان على خاتمه]، قاله سعيد ابن المسيب. والخامس: أنه قارَبَ امرأةً من نسائه في الحيض أو غيره، قاله الحسن. والقول الثاني: أن المراد بالجسد الذي أُلقي على كرسيّه أنه وُلد [له ولد] فاجتمعت الشياطين، فقال بعضهم لبعض: إِن عاش له ولد، لم ننفكَّ من البلاء، فسبيلُنا أن نقتُلَ ولده أو نَخْبِلَه، فعَلِم بذلك سليمان، [فأمر السَّحاب] فحمله، وعدا ابنه في السحاب خوفاً من الشياطين، فعاتبه الله تعالى على تخوُّفه من الشياطين، ومات الولد فأُلقي على كرسيه ميتاً جسداً. قاله الشعبي. والمفسرون على القول الأول. ونحن نذكُر قصة ابتلائه على قول الجمهور. الإِشارة إلى ذلك: اختلف العلماء في كيفية ذهاب خاتم سليمان على قولين: أحدهما: أنه كان جالساً على شاطئ البحر، فوقع منه في البحر، قاله عليّ رضي الله عنه. والثاني: أن شيطاناً أخذه، وفي كيفية ذلك أربعة أقوال. أحدها: أنه دخل ذات يوم الحمّام ووضع الخاتم تحت فِراشه، فجاء الشيطان فأخذه وألقاه في البحر، وجعل الشيطانُ يقول: أنا نبيُّ الله، قاله سعيد ابن المسيّب. والثاني: أن سليمان قال للشيطان: كيف تَفْتِنون النّاسَ؟ قال: أَرِني خاتمك أُخْبِرْكَ، فأعطاه إيّاه، فنبذه في البحر، فذهب مُلك سليمان، وقعد الشيطان على كرسيه، قاله مجاهد. والثالث: أنه دخل الحمّام، ووضع خاتمه عند أوثق نسائه في نفسه، فأتاها الشيطان فتمثَّل لها في صورة سليمان، وأخذ الخاتم منها، فلمّا خرج سليمانُ، طلبه منها، فقالت: قد دفعتُه إِليك، فهرب سليمان، وجاء الشيطان فجلس على مُلكه. قاله سعيد بن جبير. والرابع: أنه دخل الحمّام وأعطى الشيطانَ خاتمه فألقاه الشيطان في البحر، فذهب مُلك سليمان، وأُلقي على الشيطان شِبْهُه، قاله قتادة. فأمّا قِصَّةُ الشيطان، فذكر أكثر المفسرين أنه لمّا أخذ الخاتم رمى به في البحر، وأُلقي عليه شِبْهُ سليمان، فجلس على كرسيّه، وتحكَّم في سُلطانه. وقال السدي: لم يُلْقِه في البحر حتى فرّ من مكان سليمان. وهل كان يأتي [نساءَ] سليمان؟ فيه قولان: أحدهما: أنه لم يَقْدِر عليهنّ، قاله الحسن وقتادة. والثاني: أنه كان يأتيهنّ في زمن الحيض فأَنْكَرْنَه، قاله سعيد ابن المسيب. والأول أصحّ، قالوا: وكان يقضي بقضايا فاسدة، ويحكُم بما لا يجوز، فأنكره بنو إسرائيل، فقال بعضُهم لبعض: إما أن تكونوا قد هَلَكتم أنتم، وإمّا أن يكون مَلكُكم قد هَلَكَ، فاذْهَبوا إِلى نسائه فاسألوهُنَّ، فذهبوا، فقُلْنَ: إِنّا واللهِ قد أَنْكَرْنا ذلك؛ فلم يزل على حاله إلى أن انقضى زمن البلاء. وفي كيفيَّة بُعْدِ الشيطان عن مكان سليمان أربعة أقوال: أحدها: أن سليمان وجد خاتمه فتختَّم به، ثم جاء فأخذ بناصية الشيطان، قاله سعيد بن المسيّب. والثاني: أن سليمان لمّا رَجَع إلى مُلْكه وجاءته الرِّيح والطَّير والشياطين، فرّ الشيطان حتى دخل البحر، قاله مجاهد. والثالث: أنه لمّا مضى أربعون يوماً، طار الشيطان من مجلسه، قاله وهب. والرابع: أن بني إسرائيل لمّا أنكروه، أتوه فأحدقوا به، ثم نَشَروا التَّوراة فقرؤوا، فطار بين أيديهم، حتى ذهب إِلى البحر، فوقع الخاتم منه في البحر فابتلعه حوت، قاله السدي. وفي قدر مكث الشيطان قولان: أحدهما: أربعون يوماً، قاله الأكثرون. والثاني: أربعة عشر يوماً، حكاه الثعلبي. وأما قصة سليمان عليه السلام، فإنه لما سُلب خاتمه، ذهب ملكه، فانطلق هارباً في الأرض. قال مجاهد: كان يَسْتَطْعِمُ فلا يُطْعَم، فيقول: لو عَرَفْتُموني أعطيتُموني، أنا سليمان، فيطردونه، حتى أعطته امرأةٌ حوتاً، فوجد خاتمه في بطن الحوت. وقال سعيد بن جبير: انطلق سليمان حتى أتى ساحل البحر، فوجد صيّادين قد صادوا سمكاً كثيرا، وقد أنتن عليهم بعضُه، فأتاهم يَسْتَطعِم فقالوا: اذهبْ إلى تلك الحيتان فخُذْ منها، فقال: لا، أطْعِموني من هذا، فأبَوا عليه، فقال: أّطْعِموني فإنِّي سليمان، فوثب إِليه رجُلٌ منهم فضربه بالعصا غَضَباً لسليمان، فأتى تلك الحيتان فأخذ منها شيئاً، فشّقَّ بطنَ حوت، فإذا هو بالخاتم. وقال الحسن: ذُكِر لي أنه لم يُؤْوِه أَحدٌ من الناس، ولم يُعْرَف أربعينَ ليلةً، وكان يأوي إِلى امرأة مسكينة، فبينا هو يوما على شطّ نهر، وجد سمكة، فأتى بها المرأة فشقتَّها فإذا بالخاتم. وقال الضحاك: اشترى سمكة من امرأة فشقَّ بطنَها فوجد خاتمه. وفي المدة التي سُلب فيها الملك قولان: أحدهما: أربعون ليلة، كما ذكرنا عن الحسن. والثاني: خمسون ليلة، قاله سعيد بن جبير. قال المفسرون: فلمّا جعل الخاتم في يده، ردَّ اللهُ عليه بهاءَه ومُلْكه، فأظلَّته الطَّير، وأقبل لا يستقبله جنيّ ولا طائر ولا حجر ولا شجر إِلا سجد له، حتى انتهى إِلى منزله. قال السدي: ثم أرسل إلى الشيطان، فجيء به، فأَمر به، فجُعل في صندوق من حديد، ثم أطبق عليه وأقفل، وختم عليه بخاتمه، ثم أمر به فأُلقي في البحر، فهو فيه إلى أن تقوم الساعة. وقال وهب: جابَ صخرةً فأدخله فيها ثم، أوثقها بالحديد والرصاص، ثم قذفه في البحر. قوله تعالى: {وَهَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي} فتح الياء نافع، وأبو عمرو. وفيه قولان: أحدهما: لا يكون لأحد بعدي، قاله مقاتل، وأبو عبيدة. وقد أخرج البخاري ومسلم في «الصحيحين» من حديث أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إِنَّ عِفْرياً من الجِنّ تفلَّت عليّ البارحةَ ليَقْطَعَ عَلَيَّ صلاتي، فأمكنني اللهُ منه، فأخذتُه، فأردتُ أن أَربطه إِلى سارية من سواري المسجد حتى تنظُروا إِليه كلُّكم، فذكرتُ دعوة أخي سليمان {هَبْ لي مُلْكاً لا ينبغي لأحد من بعدي} فرددتُه خاسئاً» والثاني: لا ينبغي لأحد أن يسلبُه مِنِّي في حياتي، كما فعل الشيطان الذي جلس على كرسيه، قاله الحسن، وقتادة. وإنما طلب هذا المُلك، ليَعلم أنه قد غُفر له، ويعرف منزلته بإجابة دعوته، قاله الضحاك. ولم يكن في مُلْكه حين دعا بهذا الرّيحُ ولا الشياطينُ {فسَخَّرْنا له الرِّيحَ} وقرأ أبو الجوزاء، وأبو جعفر، وأبو المتوكل: «الرِّياح» على الجمع. قوله تعالى: {رُخاءً} فيه ثلاثة أقوال: أحدها: مُطيعة، رواه العوفي عن ابن عباس، وبه قال الحسن، والضحاك. والثاني: أنها الطيِّبة، قاله مجاهد. والثالث: اللَّيِّنة، مأخوذ من الرَّخاوة، قاله اللُّغويُّون. فإن قيل: كيف وصفها بهذا بعد أن وصفها في سورة [الأنبياء: 81] بأنها عاصفة؟ فالجواب: أن المفسرين قالوا: كان يأمُر العاصفَ تارةً ويأمُر الرُّخاءَ أُخرى. وقال ابن قتيبة: كأنَّها كانت تشتدُّ إذا أراد، وتَلَينَ إذا أراد. قوله تعالى: {حيثُ أصابَ} أي: حيث قصد وأراد. قال الأصمعي: تقول العرب: أصابَ فلانٌ الصَّوابَ فأَخطأَ الجوابَ، أي: أراد الصَّوابَ. قوله تعالى: {والشياطينَ} أي: وسخَّرْنا له الشياطينَ {كُلَّ بَنّاءٍ} يبنون له ما يشاء {وغَوّاصٍ} يغوصون له في البحار فيَستخرِجون الدُّرَّ، {وآخَرِينَ} أي: وسخَّرْنا له آخَرِين، وهم مَرَدَةُ الشياطين، سخَّرهم له حتى قَرَّنهم في الأصفاد لِكُفرهم. قال مقاتل: أَوثَقَهم في الحديد. وقد شرحنا معنى {مُقَرَّنِينَ في الأصفاد} في سورة نبي الله إبراهيم عليه السلام [إبراهيم: 49] {هذا عطاؤنا} المعنى: قُلنا له: هذا عطاؤنا. وفي المشار إليه قولان: أحدهما: أنه جميع ما أُعطي، {فامْنُنْ أو أَمْسِكْ} أي: أَعْطِ مَنْ شئتَ من المال، وامْنَعْ مَنْ شئتَ. والمَنَّ: الإِحسان إِلى من لا يطلب ثوابه. والثاني: أنه إِشارة إلى الشياطين المسخَّرِين له؛ فالمعنى: فامْنُنْ على مَنْ شئتَ بإطلاقه، وأَمْسِكْ مَنْ شئتَ منهم، وقد روي معنى القولين عن ابن عباس. قوله تعالى: {بغير حساب} قال الحسن: لا تَبِعَةَ عليك في الدُّنيا ولا في الآخرة. وقال سعيد بن جبير: ليس عليك حسابٌ يومَ القيامة. وقيل: في الكلام تقديم وتأخير تقديره: هذا عطاؤنا بغير حساب فامْنُنْ أو أمْسِكْ. وما بعد هذا قد سبق تفسيره [سبأ: 37] [الرعد: 29] [الأنبياء: 83] إِلى قوله: {مَسَّنِيَ الشَّيطانُ} وذلك أن الشيطان سُلِّط عليه، فأضاف ما أصابه إليه. قوله تعالى: {بِنُصْبٍ} قرأ الأكثرون بضم النون وسكون الصاد؛ وقرأ الحسن، وابن أبي عبلة، وابن السميفع، والجحدري، ويعقوب: بفتحهما. وهل بينهما فرق؟ فيه قولان: أحدهما: أنهما سواء. قال الفراء: هما كالرُّشْد والرَّشَد والعُدْم، والعَدَم، والحُزْن والحَزَن؛ وكذلك قال ابن قتيبة والزجاج. قال المفسرون: والمراد بالنصب: الضُّرُ الذي أصابه. والثاني: أن النُّصْب بتسكين الصاد: الشرُّ، وبتحريكها الإِعياء، قاله أبو عبيدة. وقرأت عائشة، ومجاهد، وأبو عمران، وأبو جعفر، وشيبة، وأبو عمارة عن حفص: {بنُصُب} بضم النون والصاد جميعاً. وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي، وأبو الجوزاء، وهبيرة عن حفص: {بنَصْب} بفتح النون وسكون الصاد. وفي المراد بالعذاب قولان: أحدهما: أنه العذاب الذي أصاب جسده. والثاني: أنه أخْذ ماله وولده. قوله تعالى: {أُرْكُضْ} أي: اضْرِب الأرضَ {برِجْلِكَ} ومنه: رَكَضْتُ الفَرَس فرَكَضَ فنبعتْ عَيْنُ ماءٍ، فذلك قوله عز وجل: {هذا مُغْتَسَلٌ باردٌ وشرابٌ}. قال ابن قتيبة: المُغْتَسَلُ: الماءُ، وهو الغسول أيضاً. قال الحسن: رَكَضَ برِجله فنبعتْ عَيْنٌ [فاغتَسلَ منها، ثم مشى نحواً من أربعين ذراعاً، ثم رَكَضَ برِجله فنبعتْ عَيْنٌ] فشَرِب منها؛ وعلى هذا جمهور العلماء أنه رَكَضَ ركضتين فنبعتْ له عينان، فاغتسل من واحدة وشرب من الأُخرى. قوله تعالى: {وخُذْ بيدك ضِغْثاً} كان قد حَلَفَ لئن شفاه الله لَيَجْلِدَنَّ زوجتَه مائةَ جَلْدة. وفي سبب هذه اليمين ثلاثة أقوال: أحدها: أن إٍبليس جلس في طريق زوجة أيُّوبَ كأنه طبيب، فقالت له: يا عبد الله إنَّ هاهنا إِنساناً مبتلىً، فهل لكَ أن تداويَه؟ قال: نعم، إِن شاء شفيتُه على أن يقول إٍذا بَرَأَ: أنت شفيتَني، فجاءت فأخبرتْه فقال: ذاك الشيطان، للهِ عَلَيَّ إن شفاني أن أجْلِدَكِ مائةَ جَلْدة. رواه يوسف بن مهران عن ابن عباس. والثاني: أن إِبليس لَقِيَها فقال: إِنِّي أنا الذي فعلت بأيوبَ مابه، وأنا آله الأرض، وما أخذتُه منه فهو بيدي، فانطلِقي أًريكِ، فمشى بها غيرَ بعيدٍ، ثم سَحَر بَصَرَها، فأراها وادياً عميقاً فيه أهلُها وولدُها ومالُها، فأتت أيُّوبَ فأخبرتْه فقال: ذاكَ الشيطان، ويحكِ كيفَ وعَى قولَه سَمْعُكِ؟ واللهِ لئن شفاني اللهُ عز وجل لأَجْلِدَنَّكِ مائةً. قاله وهب بن منبّه. والثالث: أن إِبليس جاء إِلى زوجته بسخلة، فقال: لِيَذْبَحْ لي هذه وقد بَرَأَ، فأخبرتْه فحَلَفَ لَيَجْلِدَنَّها، وقد ذكرنا هذا القول في سورة [الأنبياء: 83] عن الحسن. فأمّا الضِّغْث فقال الفراء: هو كُلُّ ما جمعتَه من شيءٍ مثل الحِزْمة الرَّطْبة قال: وما قام على ساق واستطال ثم جمعتَه فهو ضِغْث. وقال ابن قتيبة: هو الحُزْمَةُ من الخِلال والعيدان. قال الزجاج: هو الحُزْمَةُ من الحشيش والرَّيْحان وما أشبههه. قال المفسرون: جزى اللهُ زوجتَه بحُسْن صبرها أن أفتاه في ضربها، فسهّل الأمر، فجمع لها مائة عود، وقيل: مائة سنبلة. وقيل: كانت أَسَلاً. وقيل: من الإِذْخرِ. وقيل: كانت شماريخ، فضربها بها ضربةً واحدةً ولم يَحْنَثْ في يمنيه. وهل ذلك خاصٌّ له، أم لا؟ فيه قولان: أحدهما: أنه عامٌّ وبه قال ابن عباس، وعطاء بن أبي رباح [وابن أبي ليلى]. والثاني: أنه خاصٌّ لأيوب، قاله مجاهد. فصل وقد اختلف الفقهاء فيمن حلف أن يَضْرِبَ عبده عشرة أسواط فجمعها كلَّها وضربه بها ضربة واحدة، فقال مالك، والليث بن سعد: لا يَبَرُّ، وبه قال أصحابنا. وقال أبو حنيفة والشافعي: إذا أصابه في الضربة الواحدة كلُّ واحدٍ منها، فقد بَرَّ، واحتجوا بعموم قصة أيُّوب عليه الصلاة والسلام. قوله تعالى: {إِنّا وَجَدْناه صابراً} أي: على البلاء الذي ابتليناه به.
{وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ (45) إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ (46) وَإِنَّهُمْ عِنْدَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيَارِ (47) وَاذْكُرْ إِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ وَكُلٌّ مِنَ الْأَخْيَارِ (48) هَذَا ذِكْرٌ وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآَبٍ (49) جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوَابُ (50) مُتَّكِئِينَ فِيهَا يَدْعُونَ فِيهَا بِفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرَابٍ (51) وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ أَتْرَابٌ (52) هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الْحِسَابِ (53) إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِنْ نَفَادٍ (54)} قوله تعالى: {واذْكُرْ عِبادَنا} وقرأ ابن عباس، ومجاهد، وحميد، وابن محيصن، وابن كثير: {عبدَنا}، إِشارة إِلى إِبراهيم، وجعلوا إِسحاق ويعقوب عطفاً عليه، لأنه الأصل وهما ولداه، والمعنى: اذْكُر صبرهم، فإبراهيم أُلقي في النار، وإِسحاق أُضجع للذبح، ويعقوب صبر على ذهاب بصره وابتُلي بفقد ولده؛ ولم يُذْكَر إِسماعيل معهم، لأنه لم يُبْتَلَ كما ابتُلوا. {أُولي الأيدي} يعني القوة في الطاعة {والأبصارِ} البصائر في الدِّين والعِلْم. قال ابن جرير: وذِكْر الأيدي مَثَلٌ، وذلك لأن باليد البطش، وبالبطش تُعرف قُوَّة القويِّ، فلذلك قيل للقويِّ: ذو يدٍ، وعنى بالبصر: بصر القلب، وبه تُنال معرفة الأشياء، وقرأ ابن مسعود، والأعمش، وابن أبي عبلة: {أُولي الأيدِ} بغير ياءٍ في الحالين. قال الفراء: ولها وجهان: أحدهما: أن يكون القارئ لهذا أراد الأيدي، فحذف الياء، وهو صواب، مثل الجَوارِ والمناد. والثاني: أن يكون من القُوَّة والتأييد، من قوله {وَأَيَّدْنَاه بِرُوحِ القُدُسِ} [البقرة: 87]. قوله تعالى: {إِنَّا أَخْلَصْناهم} أي: اصطفيناهم وجعلناهم لنا خالصين، فأفردناهم بمُفْرَدة من خصال الخير؛ ثم أبان عنها بقوله: {ذكرى الدار}. وفي المراد بالدار هاهنا قولان: أحدهما: الآخرة. والثاني: الجنة. وفي الذكرى قولان: أحدهما: أنها من الذِّكْر، فعلى هذا يكون المعنى: أَخْلَصْناهم بذِكْر الآخرة، فليس لهم ذِكْر غيرها، قاله مجاهد، وعطاء، والسدي. وكان الفُضَيل ابن عِياض رحمة الله عليه يقول: هو الخوف الدائم في القلب. والثاني: أنها التذكير، فالمعنى: أنهم يَدْعُون الناس إِلى الآخرة وإِلى عبادة الله تعالى. قاله قتادة. وقرأ نافع {بخالصةِ ذِكْرَى الدَّارِ} فأضاف «خالصة» إِلى «ذِكْرَى الدار». قال أبو علي: تحتمل قراءة من نوَّن وجهين: أحدهما: أن تكون «ذكرى» بدلاً من «خالصة»، والتقدير: أخلصناهم بذكر الدار. والثاني: أن يكون المعنى: أخلصناهم بأن يذكُروا الدَّار بالتأهُّب للآخرة، والزُّهد في الدنيا. ومن أضاف فالمعنى: أخْلَصْناهم بإخلاصهم ذِكْرى الدَّار بالخوف منها. وقال ابن زيد: أخلصناهم بأفضل ما في الجنة. قوله تعالى: {وإِنهم عندنا لَمِنَ المُصْطَفَيْنَ} أي: من الذين اتخذهم اللهُ صَفْوَةً فصفَّاهم من الأدناس {الأخيارِ} الذين اختارهم. {واذْكُر إِسماعيلَ والْيَسَعَ وذا الكفل} أي: اذْكُرْهم بفضلهم وصبرهم لِتَسْلُكَ طريقَهم، والْيَسَعُ نبيُّ، واسمه أعجميّ معرَّب، وقد ذكرناه في [الأنعام: 85] وشرحنا في سورة [الأنبياء: 85] قصة ذي الكفل، وتكلمنا في [البقرة: 125] في اسم إِسماعيل، وزعم مقاتل أن إِسماعيل هذا ليس بابن إبراهيم. قوله تعالى: {هذا ذِكْرٌ} أي: شرف وثناءٌ جميل يُذْكَرون به أبداً {وإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مآبٍ} أي: حُسْنَ مَرْجِعٍ يرجعون إِليه في الآخرة. ثم بيَّن ذلك المَرْجِع، فقال: {جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الأبوابُ} قال الفراء: إنما رُفعت «الأبوابُ» لأن المعنى: مفتحةً لهم أبوابُها، والعرب تجعل الألف واللام خَلَفاً من الإِضافة، فيقولون: مررت على رَجُلٍ حَسَنِ العَيْنِ، وقبيح الأنف، والمعنى: حسنةٌ عينُه قبيحٌ أنفُه، ومنه قوله تعالى: {فإنَّ الجحيمَ هي المأوى} [النازعات: 39] والمعنى: مأواه. وقال الزجاج: المعنى مُفتَّحة لهم الأبواب منها، فالألف واللام للتعريف، لا للبدل. قال ابن جرير: والفائدة في ذِكْر تفتيح الأبواب، أن الله عز وجل أخبر عنها أن أبوابها تُفتَح لهم بغير فتح سُكَّانها لها بيد، ولكن بالأمر، قال الحسن: هي أبواب تَكلّم فتُكلّم: انفتحي انغلقي. قوله تعالى: {وعِنْدَهم قاصراتُ الطَّرْفِ} قد مضى بيانه في [الصافات: 48]. قال الزجاج: والأتراب: اللواتي أسنانُهُنَّ واحدةٌ وهُنَّ في غاية الشباب والحُسْن. قوله تعالى: {هذا ما تُوعَدُونَ} قرأ أبو عمرو، وابن كثير بالياء. والباقون بالتاء. قوله تعالى: {ليَوْمِ الحسابِ} اللام بمعنى «في» والنَّفاد: الانقطاع. قال السدي: كلَّما أُخِذ من رزق الجنة شيءٌ، عاد مِثْلُه.
{هَذَا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآَبٍ (55) جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمِهَادُ (56) هَذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ (57) وَآَخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ (58) هَذَا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ لَا مَرْحَبًا بِهِمْ إِنَّهُمْ صَالُوا النَّارِ (59) قَالُوا بَلْ أَنْتُمْ لَا مَرْحَبًا بِكُمْ أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنَا فَبِئْسَ الْقَرَارُ (60) قَالُوا رَبَّنَا مَنْ قَدَّمَ لَنَا هَذَا فَزِدْهُ عَذَابًا ضِعْفًا فِي النَّارِ (61) وَقَالُوا مَا لَنَا لَا نَرَى رِجَالًا كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرَارِ (62) أَتَّخَذْنَاهُمْ سِخْرِيًّا أَمْ زَاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصَارُ (63) إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ (64) قُلْ إِنَّمَا أَنَا مُنْذِرٌ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (65) رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ (66)} قوله تعالى: {هذا} المعنى: هذا الذي ذكرناه {وإِنَّ لِلطّاغِينَ} يعني الكافرين {لَشَرَّ مَآبٍ}، ثم بيَّن ذلك بقوله: {جهنَّمَ} والمِهاد: الفِراش. {هذا فَلْيذوقوه} قال الفراء: في الآية تقديم وتأخير، تقديره: هذا حميمٌ وغَسَّاقٌ فَلْيَذُوقوه؛ وإن شئتَ جعلتَ الحميم مستأنَفاً، كأنَّكَ قُلْتَ: هذا فلْيَذُوقوه، ثم قلت: منه حَميمٌ ومنه غَسّاقٌ، كقول الشاعر: حتَّى إِذا ما أَضاءَ الصُّبْحُ في غَلَسٍ *** وغُودِرَ البَقْلُ مَلْوِيٌّ ومَحْصُودُ فأمَا الحَميم، فهوالماء الحارّ. وأما الغَسّاق، ففيه لغتان، قرأ حمزة، والكسائي، وخلف، وحفص: بالتشديد، وكذلك في [عَمَّ يتساءلون: 25]، تابعهم لمفضل في {عَمَّ يتساؤلون}، وقرأ الباقون بالتخفيف. وفي الغَسّاق أربعة أقوال: أحدها: الزَّمهرير، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس. وقال مجاهد: الغَسّاق لا يستطيعون أن يذوقوه من برده. والثاني: أنه ما يجري من صديد أهل النار، رواه الضحاك عن ابن عباس، وبه قال عطيّة، وقتادة، وابن زيد. والثالث: أن الغَسّاق: عَيْنٌ في جهنَّم يسيل إِليها حُمَةُ كلِّ ذاتِ حُمَة من حَيَّة أو عقرب أو غيرها، فيستنقع، فيؤتى بالآدميّ فيُغْمَس فيها غَمْسةً، فيخرج وقد سقط جِلْدُه ولحمه عن العظام، ويَجُرُّ لحمَه جَرَّ الرجُل ثوبه، قاله كعب. والرابع: أنه ما يَسيل من دموعهم، قاله السدي. قال أبو عبيدة: الغَسّاق: ما سال، يقال: غَسَقَت العين والجرح. وقرأت على شيخنا أبي منصور اللغوي عن ابن قتيبة قال: لم يكن أبو عبيدة [يذهب] إلى أن في القرآن شيئا من غير لغة العرب. وكان يقول: هو اتفاق يقع بين اللغتين، وكان [غيرُه] يزعُم أن الغَسّاق: البارد المُنْتِن بلسان الترك. وقيل: فَعّال، من غَسَقَ يَغْسِقُ؛ فعلى هذا يكون عربيّاً. وقيل في معناه: إِنه الشديد البّرْد يحْرِق من بَرْده. وقيل: هو ما يَسيل من جلود أهل النار من الصديد. قوله تعالى: {وآخَرُ} قرأ أبو عمرو، والمفضّل: {وأَخَرُ} بضم الهمزة من غير مدٍّ، فجمعا لأجل نعته بالأزواج، وهي جمع. وقرأ الباقون بفتح الألف ومدِّه على التوحيد، واحتجُّوا بأن العرب تنعت الاسم إِذا كان فعلاً بالقليل والكثير؛ قال الفراء: تقول: عذابُ فلانٍ ضُروبٌ شتَّى، وضَرْبان مختلفان؛ وإِن شئتَ جعلتَ الأزواج نعتاً للحميم والغَسّاق والآخر، فهُنَّ ثلاثةٌ، والأشبه أن تجعله صفة لواحد. وقال الزجاج: من قرأ «وآخرُ» بالمدِّ، فالمعنى: وعذاب آخر {مِنْ شَكْلِهِ} أي: مِثْلِ الأول. ومن قرأ: «وأُخَرُ» فالمعنى: وأنواعٌ أُخَر، لأن قوله: {أزواجٌ} بمعنى أنواع. وقال ابن قتيبة: «مِنْ شَكْلِهِ» أي: مِنْ نَحوِه، «أَزْوَاجٌ» أي: أصنافٌ. وقال ابن جرير: «مِنْ شَكْلِهِ» أي: مِنْ نَحوِ الحَميم. قال ابن مسعود في قوله {وآخرُ مِنْ شَكْلِهِ}: هو الزَّمهرير. وقال الحسن: لمّا ذكر اللهُ تعالى العذابَ الذي يكون في الدنيا، قال: «وآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ» أي: وآخرَ لم يُرَ في الدنيا. قوله تعالى: {هذا فَوْجٌ} هذا قول الزَّبانية للقادة المتقدِّمين في الكفر إِذا جاؤوهم بالأتباع. وقيل: بل هو قول الملائكة لأهل النار كلمَّا جاؤوهم بأمَّة بعد أُمَّة. والفوج: الجماعة من الناس، وجمعه: أفواج. والمُقْتَحِمُ: الداخل في الشيء رمياً بنفسه. قال ابن السائب: إِنهم يُضْرَبونَ بالمَقامع، فيُلْقُونَ أنفُسهم في النار ويَثِبون فيها خوفاً من تلك المقامع. فلمّا قالت الملائكة ذلك لأهل النار قالوا: لا مَرْحَباً بهم، فاتصل الكلام كأنه قول واحد، وإنما الأول من قول الملائكة، والثاني: من قول أهل النار؛ وقد بيَّنّا مِثْلَ هذا في قوله {لِيَعْلَمْ أَنِّي لم أَخُنْهُ بالغَيْب} [يوسف: 52] والمَرْحَبُ والرُّحْبُ: السَّعَةُ. والمعنى: لا اتَّسعت بهم مساكنُهم. قال أبو عبيدة: تقول العرب للرجل: لا مَرْحَباً [بك] أي: لا رَحُبَتْ عليك الأرض. وقال ابن قتيبة: معنى قولهم: «مَرْحَباً وأهْلاً» أي: أتيتَ رُحْباً، أي: سَعَة، وأَهْلاً، أي: أتيتَ أهلاً لا غُرباء، فائنس ولا تستوحش، وسهلاً، أي: أَتيتَ سَهْلاً لا حَزْناً، وهو في مذهب الدُّعاء، كما تقول: لَقِيتَ خَيْراً. قال الزجاج: و«مَرْحَباً» منصوب بقوله: رَحُبَت بلادُك مَرْحَباً، وصادفتَ مَرْحَباً، فأُدخلت «لا» على ذلك المعنى. قوله تعالى: {إِنَّهم صَالُوا النّارِ} أي: داخِلُوها كما دخلْناها، ومُقاسون حَرَّها، فأجابهم القوم، ف {قالوا بَلْ أنتم لا مَرْحَباً بكم أنتم قَدَّمتموه لنا}. إن قلنا: إن هذا قول الأتباع للرؤساء، فالمعنى: أنتم زيَّنتم لنا الكفر؛ [وإن قلنا: إنه قول الأمَّة المتأخرة للأمَّة المتقدِّمة، فالمعنى: أنتم شرَّعتم لنا الكفر] وبدأتم به قبلنا، فدخلتم النار قبلنا {فبئسَ القرارُ} أي: بئس المُسْتَقَرّ والمنزل. {قالوا ربَّنا مَنْ قدَّم لنا هذا} أي: مَنْ سنَّه وشرعه {فزِدْهُ عذاباً ضِعْفاً في النار} وقد شرحناه في [الأعراف: 38] وفي القائلين لهذا قولان. أحدهما: أنه قول جميع أهل النار، قاله ابن السائب. والثاني: قول الأتباع. قاله مقاتل. قوله تعالى: {وقالوا} يعني أهل النار {ما لَنَا لا نَرَى رجالاً كُنّا نَعُدُّهم من الأشرار} قال المفسرون: إذا دخلوا النار، نظروا فلم يَرَوْا مَنْ كان يخالفُهم من المؤمنين، فيقولون ذلك. قال مجاهد: يقول أبو جهل في النار: أين صُهَيب، أين عمّار، أين خبّاب، أين بلال؟!. قوله تعالى: {أتَّخَذْناهم سِخْرِيّاً} قرأ أبو عمرو، وحمزة، والكسائي: {من الأشرار اتَّخَذْناهم} بالوصل على الخبر؛ أي: [إِنّا] اتَّخَذْناهم. وهؤلاء يبتدئون بكسر الهمزة. وقرأ الباقون بقطع الألف وفتحها على معنى الاستفهام. وهؤلاء يبتدئون بفتح الهمزة. وقال الفراء: وهذا استفهام بمعنى التعجُّب والتوبيخ، والمعنى أنهم يوبِّخون أنفسهم على ما صنعوا بالمؤمنين {وسخْرِيّاً} يُقرأ بضم السين وكسرها. وقد شرحناها في آخر سورة [المؤمنين: 110] {أَمْ زاغت عنهم الأبصارُ} أي: وهم مَعَنا في النار ولا نراهم؟!. وقال أبو عبيدة: «أمْ» هاهنا بمعنى «بَلْ». قوله تعالى: {إِنَّ ذلكَ لحَقُّ} قال الزجاج: [أي]: إِن الذي وصفْناه عنهم لَحَقٌّ. ثم بيَّن ما هو، فقال: هو {تَخَصُمُ أَهْلِ النّار} وقرأ أبوالجوزاء، وأبو الشعثاء، وأبو عمران، وابن أبي عبلة: {تَخَاصُمَ} برفع الصاد وفتح الميم، وكسر اللام من «أَهْلِ». وقرأ أبو مجلز، وأبو العالية، وأبو المتوكل، وابن السميفع: {تَخَاصَمَ أَهْلَ} بفتح الصاد والميم ورفع اللام.
{قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ (67) أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ (68) مَا كَانَ لِيَ مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلَى إِذْ يَخْتَصِمُونَ (69) إِنْ يُوحَى إِلَيَّ إِلَّا أَنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (70) إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ (71) فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ (72) فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (73) إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ (74) قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعَالِينَ (75) قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (76) قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (77) وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلَى يَوْمِ الدِّينِ (78) قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (79) قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (80) إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (81) قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (82) إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (83) قَالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ (84) لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ (85) قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ (86) إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (87) وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ (88)} قوله تعالى: {قُلْ هُوَ نَبَأُ عظيمٌ} النَّبأُ: الخَبَر. وفي المشار إِليه قولان. أحدهما: أنه القرآن، قاله ابن عباس، ومجاهد، والجمهور. والثاني: أنه البعث بعد الموت، قاله قتادة، {أنتم عنه مُعْرِضُونَ} أي: لا تتفكَّرون فيه فتعلمونَ صِدْقي في نُبوَّتي، وأن ما جئتُ به من الأخبار عن قصص الماضين لم أَعْلَمْه إِلاّ بوحي من الله. ويدل على هذا المعنى قوله {ما كان ليَ من عِلْمٍ بالملأِ الأعلى} يعني الملائكة {إِذ يَخْتَصِمُونَ} في شأن آدمَ حين قال الله تعالى: {إِنِّي جاعلٌ في الأرض خَليفةً} [البقرة: 30]؛ والمعنى: إِنِّي ما عَلِمْتُ هذا إلاّ بوحي، {إِنْ يُوحَى إِليَّ} أي: ما يوحى إليَّ {إلاّ أنمَّا أنا نذيرٌ} [أي]: إِلاّ أنِّي نبيٌّ أُنْذرِكم وأبيِّن لكم ما تأتونه وتجتنبونه. {إِذ قال ربُّكَ} هذا متصل بقوله: «يختصمونَ»، وإنما اعترضت تلك الآية بينهما. قال ابن عباس: اختصَموا حين شُوورِوا في خَلْق آدم، فقال الله لهم: {إِنِّي جاعلٌ في الأرض خليفة}، وهذه الخصومة منهم إنما كانت مُناظَرةً بينهم. وفي مُناظَرتهم قولان: أحدهما: أنه قولهم: {أتَجْعَلُ فيها من يُفْسِدُ فيها} [البقرة: 30]، قاله ابن عباس، ومقاتل. والثاني: أنهم قالوا: لن يَخْلُقَ اللهُ خَلْقاً إِلاّ كُنّا أكرمَ منه وأَعْلَمَ. قاله الحسن؛ هذا قول الأكثر من المفسرين. وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «رأيتُ ربِّي عز وجل، فقال لي: فيمَ يختصِم الملأُ الأعلى؟ قلت: أنتَ أَعْلَمُ يا ربّ، قال: في الكفّارات والدرجات، فأمّا الكفّارات، فإسباغ الوُضوء في السَّبَرات، ونقل الأقدام إِلى الجماعات، وانتظار الصلاة بعد الصلاة. وأمّا الدَّرَجات، فإفشاء السَّلام، وإِطعامُ الطَّعام، والصَّلاةُ باللَّيل والنّاس نيام» قوله تعالى: {أَسْتَكْبَرْتَ} أي: أَسْتَكْبَرْتَ بنفسكَ حين أبَيْتَ السُّجودَ {أَمْ كُنْتَ مِنَ العالِينَ} أي: من قوم يتكبَّرونَ فتكبَّرْتَ عن السُّجود لِكَونكَ من قوم يتكبَّرونَ. قوله تعالى: {فإنَّكَ رَجِيمٌ} أي: مَرْجُومٌ بالذَّمِّ واللَّعْن. قوله تعالى: {إلى يوم الوقت المعلوم} وهو وقت النَّفخة الأُولى، وهو حين موت الخلائق. وقوله: {فبِعزَّتِكَ} يمين بمعنى: فوَعِزَّتِك. وما أخللنا به في هذه القصة فهو مذكور في [الأعراف: 12] و[الحجر: 34] وغيرهما مما تقدم. قوله تعالى: {قال فالحَقُّ والحَقُّ أقولُ} قرأ عاصم إِلا حَسْنون عن هبيرة، وحمزة، وخلف، وزيد عن يعقوب: {فالحَقُّ} بالرفع في الأول ونصب الثاني. وهذا مروي عن ابن عباس، ومجاهد؛ قال ابن عباس في معناه: فأنا الحقُّ وأقولُ الحَقُّ؛ وقال غيره: خبر الحقِّ محذوف، تقديره: الحَقُّ مِنِّي. وقرأ محبوب عن أبي عمرو بالرفع فيهما؛ قال الزجّاج: من رفعهما جميعاً، كان المعنى: فأنا الحقُّ والحَقُّ أقولُ. وقرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وابن عامر، والكسائي: بالنصب فيهما. قال الفراء: وهو على معنى قولك: حَقّاً لآتِيَنَّكَ، ووجودُ الألف واللام وطرحُهما سواءٌ، وهو بمنزلة قولك: حمداً لله. وقال مكّيّ بن أبي طالب: انتصب الحق الأول على الإِغراء، أي: اتَّبِعوا الحَقَّ، واسمَعوا والزَموا الحَقَّ. وقيل: هو نصب على القَسَم كما تقول: اللهَ لأَفْعَلَنَّ، فتَنْصِب حين حذفتَ الجارّ، لأن تقديره: فبالحَقّ؛ فأمّا الحَقُّ الثاني، فيجوز أن يكون الأولَ، وكرَّره توكيداً، ويجوز أن يكون منصوباً ب {أقولُ}، كأنه قال: وأقولُ الحَقَّ. وقرأ ابن عباس، ومجاهد، وعكرمة، وأبو رجاء، ومعاذ القارئ، [والأعمش]: {فالحَقِّ} بكسر القاف {والحَقَّ} بنصبها. وقرأ أبو عمران [الجوني]: بكسر القافين جميعاً. وقرأ أبو المتوكل، وأبو الجوزاء، وأبو نهيك: {فالحَقَّ} بالنصب {والحَقُّ} بالرفع. قوله تعالى: {لأمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ} أي: مِنْ نَفْسِكَ وذريتك. {قُلْ ما أسألُكم عليه من أَجْرٍ} أي: على تبليغ الوحي {وما أنا من المتكلِّفينَ} أي: لم أتكلَّف إِتيانَكم من قِبَلِ نَفْسي، إنما أُمرتُ أن آتيَكم، ولم أَقُل القرآنَ من تِلْقاء نفسي، إِنما أُوحيَ إِليَّ. {إِنْ هُوَ} أي: ماهو، يعني القرآن {إِلاّ ذِكْرٌ} أي: موعظة {للعالَمِين}. {ولَتَعْلِمُنَّ} يا معاشر الكُفّار {نَبَأَهُ} أي: خبر صِدق القرآن {بعد حينٍ} وفيه ثلاثة أقوال: أحدها: بعد الموت. والثاني: يوم القيامة، رويا عن ابن عباس، وبالأول يقول قتادة، وبالثاني يقول عكرمة. والثالث: يوم بدر، قاله السدي، ومقاتل. وقال ابن السائب: من بقي إِلى أن ظَهَرَ أمرُ رسول الله صلى الله عليه وسلم عَلِمَ ذلك، ومن مات عَلِمَه بعد الموت. وذهب بعض المفسرين إِلى أن هذه الآية منسوخة بآية السيف، ولا وجه لذلك.
{تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (1) إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ (2) أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ (3) لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا لَاصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ سُبْحَانَهُ هُوَ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (4)} قوله تعالى: {تنزيلُ الكتابِ} قال الزجاج: الكتاب هاهنا القرآن، ورفع «تنزيلُ» من وجهين. أحدهما: الابتداء، ويكون الخبر {مِنَ الله}، فالمعنى: نزل من عند الله. والثاني: على إضمار هذا تنزيلُ الكتاب؛ و{مُخْلِصاً} منصوب على الحال؛ فالمعنى: فاعبُدِ الله موحِّداً لا تُشْرِكْ به شيئاً. قوله تعالى: {ألا للهِ الدّينُ الخالصُ} يعني: الخالص من الشِّرك، وما سِواه ليس بِدِين الله الذي أَمر به؛ [وقيل]: المعنى: لا يَستحِقُّ الدِّينَ الخالصَ إِلاّ اللُهُ. {والذينَ اتَّخَذُوا مِنْ دونِه أولياءَ} يعنى آلهة ويدخُل في هؤلاء اليهودُ حين قالوا {عُزَيْرٌ ابنُ اللهِ} [التوبة: 30] والنصارى لقولهم {المسيحُ ابنُ الله} [التوبة: 30] وجميعُ عُبَّاد الأصنام، ويدُلُّ عليه قولُه بعد ذلك {لو أرادَ اللهُ أن يَتَّخِذَ وَلَداً} [الزمر: 4]. قوله تعالى: {ما نَعْبُدُهم} أي: يقولون ما نعبُدُهم {إلا لِيُقَرِّبونا إِلى الله زُلْفى} أي: إِلاّ لِيَشْفَعوا لنا إِلى الله، والزُّلْفى: القُرْبى، وهو اسم أُقيم مقامَ المصدر فكأنه قال: إلاّ لِيُقَرِّبونا إِلى الله تقريباً. {إنَّ الله يحكمُ بينهم} أي: بين أهل الأديان فيما كانوا يختلفون فيه من أمر الدّين. وذهب قوم إلى أن هذه الآية منسوخة بآية السيف، ولا وجه لذلك. قوله تعالى: {إنَّ الله لا يَهْدي} أي: لا يُرْشِد {مَنْ هو كاذبٌ} في قوله إِن الآلهه تشفع {كَفَّارٌ} أي: كافر باتِّخاذها آلهة. وهذا إِخبار عمن سبق عليه القضاء بحرمان الهداية. {لو أراد اللهُ أن يَتَّخِذَ وَلَداً} [أي]: على ما يزعم من ينسُب ذلك إِلى الله {لاصْطَفَى} أي: لاختار ممّا يخلُق. قال مقاتل: أي من الملائكة.
{خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى أَلَا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ (5)} قوله تعالى: {خَلَقَ السمواتِ والأرضَ بالحَقِّ} [أي]: لم يخلقهما لغير شيء. {يُكَوِّرُ اللَّيلَ على النَّهار} قال أبو عبيدة: يُدْخِلُ هذا على هذا. قال ابن قتيبة: وأصلُ التَّكْوِير: اللَّفُّ ومنه كَوْرُ العِمامة، وقال غيره: التَّكْويرُ طَرْحُ الشيء بعضه على بعض. {وسخَّر الشَّمسَ والقمر} أي ذللّهما للسَّير على ما أراد {كُلٌّ يَجْري لأَجَلٍ مسمَّى} أي: إِلى الأجَلَ الذي وقَّت اللهُ للدُّنيا. وقد شرحنا معنى العزيز في [البقرة: 129] ومعنى الغفَّار في [طه: 82].
{خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلَاثٍ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (6)} قوله تعالى: {خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحدةٍ} يعني آدم {ثُمَّ جعَلَ منها زَوْجَها} أي: قَبْلَ خَلْقِكم جعل منها زوجها، لأنّ حَوّاءَ خُلِقَتْ قَبْلَ الذُّرِيَّة، ومِثْلُه في الكلام أن تقول: قد أعطيتُكَ اليوم شيئاً، ثُمَّ الذي أعطيتُكَ أمس أكثر؛ هذا اختيار الفراء. وقال غيره: ثم أَخبركم أنه خَلَق منها زَوْجَها. {وأَنْزَلَ لكم من الأَنعام} أي: خَلَق {ثمانيةَ أزواجٍ}، وقد بيَّنّاها في سورة [الأنعام: 143]. {خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ} أي: نُطَفاً ثُمَّ عَلَقاً ثم مُضَغاً ثم عَظْماً ثم لَحْماً، ثم أنبت الشَّعر، إِلى غير ذلك من تقلُّب الأحوال إِلى إِخراج الأطفال، هذا قول الجمهور. وقال ابن زيد: خَلْقاً في البُطون مِنْ بَعْدِ خَلْقِكم في ظَهْر آدم. قوله تعالى: {في ظُلُماتٍ ثلاثٍ} ظُلْمة البَطْن، وظُلْمة الرَّحِم، وظُلْمة المَشيمة، قاله الجمهور، وابن زيد معهم. وقال أبو عبيدة: إِنها ظُلْمة صُلْب الأب، وظُلْمة بَطْن المرأة، وظُلْمة الرَّحِم. قوله تعالى: {فأَنَّى تُصْرَفُونَ} أي: من أين تُصْرَفون عن طريق الحَقِّ بعد هذا البيان.
{إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (7)} {إِن تكفُروا فإنَّ الله غنيٌّ عنكم} أي: عن إِيمانكم وعبادتكم {ولا يَرْضَى لِعباده الكُفْرَ} فيه قولان: أحدهما: لا يرضاه للمؤمِنين قاله ابن عباس. والثاني: لا يرضاه لأحَد وإِن وقع بإرادته، وفرقٌ بين الإِرادة والرِّضى. وقد أشرنا إِلى هذا في [البقرة: 205] عند قوله: {والله لا يحب الفساد}. {وإِنْ تشكُروا يَرْضَهُ لَكُم} أي: يرضى ذلك الشُّكر لكم {إِنَّه عَلِيمٌ بذاتِ الصُّدور} أي: بما في القلوب.
{وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ (8)} قوله تعالى: {وإِذا مَسَّ الإِنسانَ ضُرٌّ} اختلفوا فيمن نزلت على قولين. أحدهما: في عتبة بن ربيعة، قاله عطاء. والثاني: في أبي حذيفة بن المغيرة، قاله مقاتل. والضُرُّ: البلاء والشِّدَّة. {مُنِيباً إِليه} أي: راجعاً إليه من شِركه. {ثُمَّ إِذا خَوَّلَهُ} أي: أعطاه وملَّكه {نِعْمِةً منه} بعد البلاء الذي أصابه، كالصِّحَّة بعد المرض والغنى بعد الفقر {نَسِيَ} أي: ترك ما كان يدعو إِليه، وفيه ثلاثة أقوال. أحدها: نسي الدُّعاء الذي كان يتضرَّع به إلى الله تعالى. والثاني: نَسِيَ الضُّرَ الذي [كان] يدعو [الله] إٍلى كَشْفه. والثالث: نَسِيَ الله الذي [كان] يتضرَّع إِليه. قال الزجّاج: وقد تَدُلُّ {ما} على الله عز وجل، كقوله {ولا أنتمُ عابِدونَ ما أعبُدُ} [الكافرون: 3] وقال الفراء: تَرَكَ ما كان يدعو إِليه، وقد سبق معنى الأنداد [البقرة: 22] ومعنى {لِيُضِلَّ عن سبيل الله} [الحج: 9]. قوله تعالى: {قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفرك} لفظُه لفظُ الأمر ومعناه التهديد، ومثله {فتَمَتَّعُوا فسَوْفَ تَعْلَمُونَ} [النحل: 55].
{أَمْ مَنْ هُوَ قَانِتٌ آَنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآَخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ (9) قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ (10)} قوله تعالى: {أَمَّنْ هو قانِتٌ} قرأ ابن كثير، ونافع، وحمزة، وأبو جعفر، والمفضل عن عاصم، وزيد عن يعقوب: {أَمَنْ} بالتخفيف؛ وقرأ الباقون: بالتشديد. فأما المشدَّدة فمعناها: أهذا الذي ذَكَرْنا خيرٌ، أمَّن هو قانتٌ؟ والأصل في {أمَّن}: أَمْ مَنْ فأدغمت الميم في الميم. وأما المخفَّفة، ففي تقديرها ثلاثة أوجه: أحدها: أنها بمعنى النداء. قال الفراء: فسَّرها الذين قرؤوا بها فقالوا: يامَنْ هو قانتٌ، وهو وجه حسن، والعرب تدعو بالألف كما تدعوا بياء فيقولون: يا زيدُ أَقْبِل، وأَزَيُدْ أَقْبِل. فيكون المعنى: أنه ذَكَر النّاسيَ الكافرَ. ثمَ قصَّ قِصِّةَ الصّالح بالنِّداء، كما تقول: فلانٌ لا يصوم ولا يصلِّي، فيامَنْ يصوم أبْشِرْ. والثاني: أن تقديرها: أمَّن هو قانت كمن ليس بقانت؟!. والثالث: أمَّن هو قانت كمن جعل لله أنداداً؟!. وقد ذكرنا معنى القُنوت في [البقرة: 116] ومعنى {آناءَ اللَّيل} في [آل عمران: 113]. قوله تعالى: {ساجداً وقائماً} يعني في الصلاة. وفيمن نزلت فيه هذه الآية خمسة أقوال. أحدها: أنه أبو بكر الصِّدِّيق، رواه عطاء عن ابن عباس. والثاني: عثمان بن عفان، قاله ابن عمر. والثالث: عمّار بن ياسر، قاله مقاتل. والرابع: ابن مسعود، وعمّار وصُهَيب، وأبو ذَرّ قاله ابن السائب. والخامس: أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، حكاه يحيى بن سلام. قوله تعالى: {يَحْذَرُ الآخرة} أي: عذاب الآخرة. وقد قرأ ابن مسعود، وأُبيُّ بن كعب، وابن عباس، وعروة، وسعيد بن جبير، وأبو رجاء، وأبو عمران: {يَحْذَرُ عذابَ الآخرة} بزيادة {عذابَ}. {ويَرْجو رَحْمَةَ ربِّه} فيها قولان: أحدهما: أنها المغفرة، قاله ابن السائب. والثاني: الجنة، قاله مقاتل. قوله تعالى: {قُلْ هل يستوي الذي يَعْلَمونَ} أنَّ ما وعدَ اللهُ من الثواب والعقاب حَقٌّ {والذين لا يَعْلَمونَ} وباقي الآية قد تقدم في [الرعد: 19] وكذلك قوله {لِلَّذينَ أَحْسَنوا في هذه الدُّنيا حسنة} قد تقدم في [النحل: 30]. وفي قوله: {وأرضُ الله واسعةٌ} قولان. أحدهما: أنه حَثٌّ لهم على الهِجرة من مكَّة إِلى حيث يأمنون. والثاني: أنها أرض الجَنَّة رغَّبهم فيها. {إنِّما يوفَّى الصَّابرون} الذين صبروا لأجل الله تعالى على مانالهم {بغير حساب} أي: يُعْطَون عطاءً كثيراً أوسعَ من أن يُحْسَب وأعظمَ من أن يُحاطَ به، لا على قَدْر أعمالهم.
{قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ (11) وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ (12) قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (13) قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي (14) فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ (15) لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذَلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ يَا عِبَادِ فَاتَّقُونِ (16) وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَى فَبَشِّرْ عِبَادِ (17) الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ (18)} قوله تعالى: {قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ} قال مقاتل: وذلك أن كُفّار قريش قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم: ما حَمَلك على الذي أتيتَنا به؟! ألا تنظُر إِلى مِلَّة آبائك فتأخذ بها؟! فنزلت هذه الآية. والمعنى {قل إِنِّي أُمِرْتُ أنْ أعبُد الله مُخْلِصاً له الدِّينَ} أي: أُمِرْتُ أن أعبُدَه على التوحيد والإِخلاص السالم من الشّرك، {وأُمِرْتُ لأَنْ أكونَ أوَّلَ المُسْلِمِينَ} من هذه الأُمَّة. {قُلْ إِنِّي أخافُ إِنْ عَصَيْتُ ربِّي} بالرجوع إلى دين آبائي، {عذابَ يَوْمٍ عظيمٍ} وقد اختلفوا في نسخ هذه الآية كما بيَّنّا في نظيرتها في [الأنعام: 15]. {قُلِ اللهَ أعبُدُ مُخْلِصاً له دِيني} بالتوحيد، {فاعبُدوا ماشِئتُم}، وهذا تهديد، وبعضهم يقول: هو منسوخ بآية السيف، وهذا باطل، لأنه لو كان أمراً، كان منسوخاً، فأمّا أن يكون بمعنى الوعيد، فلا وجه لِنَسْخه. {قُلْ إِنَّ الخاسرينَ الذين خَسِروا أنفسُهم} بأن صاروا إِلى النار. (و) خسروا (أهليهم) فيه ثلاثة أقوال: أحدها: أنهم خَسِروا الحُور العين اللَّواتي أُعْدِدْنَ لهم في الجنة لو أطاعوا، قاله الحسن وقتادة. والثاني: خَسِروا الأهل في النَّار، إِذ لا أهَل لهم فيها، قاله مجاهد، وابن زيد. والثالث: خَسِروا أهليهم الذين كانوا في الدنيا، إِذ صاروا إلى النار بكُفرهم، وصار أهلوههم إِلى الجَنَّة بإيمانهم، قاله الماوردي. قوله تعالى: {لهم مِنْ فَوقهم ظُلَلٌ مِنَ النّار} وهي الأطباق من النار. وإِنما قال: {ومِنْ تحتهم ظُلَلٌ} لأنَّها ظُلَلٌ لِمَنْ تحتَهم (ذلك) الذي وصف اللهُ من العذاب {يُخَوِّفُ اللهُ به عباده} المؤمنين. قوله تعالى: {والذين اجتَنَبوا الطّاغوتَ} روى ابن زيد عن أبيه أن هذه الآية والتي بعدها نزلت في ثلاثة نَفَرٍ كانوا في الجاهلية يوحِّدون الله تعالى: زيدِ ابن عمرو بن نُفَيل، وأبي ذَرّ، وسلمان الفارسي، رضى الله عنهم؛ قال {أولئك الذين هداهم اللهُ} بغير كتاب ولا نبيّ. وفي المراد بالطّاغوت هاهنا ثلاثة أقوال. أحدها: الشياطين، قاله مجاهد. والثاني: الكهنة، قاله ابن السائب. والثالث: الأوثان، قاله مقاتل، فعلى قول مقاتل هذا إنما قال: «يعبُدوها» لأنها مؤنَّثة. وقال الأخفش: إنما قال: «يعبُدوها» لأن الطّاغوت في معنى جماعة، وإن شئتَ جعلتَه واحداً مؤنَّثاً. قوله تعالى: {وأنابوا إِلى الله} أي: رجَعوا إِليه بالطّاعة {لهم البُشْرى} بالجنة {فبَشِّر عبادي} بباءٍ، وحرَّك الياء أبوعمرو. ثم نعتهم فقال {الذين يستمِعونَ القول} وفيه ثلاثة أقوال: أحدها: [أنه] القرآن، قاله الجمهور. فعلى، هذا في معنى {فيَتَّبعونَ أحسنه} أقوال. قد شرحناها في [الأعراف: 145] عند قوله {وأمُرْ قَوْمَكَ يأخُذوا بأحسنها}. والثاني: أنه جميع الكلام. ثم في المعنى قولان: أحدهما: [أنه الرَّجُل] يَجْلِس مع القوم فيَسْمَع كلامهم، فيَعمل بالمحاسن ويحدِّث بها، ويَكُفُّ عن المساوئ ولايُظْهِرها، قاله ابن السائب. والثاني: [أنه] لمّا ادَّعى مسيلمة أنه قد أتى بقرآن، وأتت الكهنة بالكلام المزخرَف في الأباطيل، فرَّق المؤمنون بين ذلك وبين كلام الله، فاتَّبَعوا كلامَ الله، ورفضوا أباطيل أولئك. قاله أبو سليمان الدمشقي.
{أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ (19) لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِهَا غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعَادَ (20)} قوله تعالى: {أَفَمَنْ حَقَّ عليه كَلِمَةُ العذابِ} قال ابن عباس: سبق في عِلْم الله أنَّه في النّار. فإن قيل: كيف اجتمع في هذه الآية استفهامان بلا جواب؟ قيل: أمّا الفراء، فإنه يقول: هذا ممّا يُراد به استفهام واحد، فسبق الاستفهامُ إِلى غير موضعه فَرُدّ إِلى موضعه الذي هو له، فيكون المعنى: أفأنتَ تُنْقِذ مَنْ في النارِ مَنْ حَقَّت عليه كلمة العذاب؟ ومثله {أَيَعِدُكُمْ أَتَّكُمْ إِذا مِتُّم وكُنْتُم تُرَاباً وعِظاماً أَنَّكُم مُخْرَجُون} [المؤمنون: 35] فرَدّ {أنَّكُْ} مرتين، والمعنى: أَيَعِدُكُم أنكم مُخْرَجون إِذا مِتُّم؟ ومثله {لا تَحْسَبَنَّ الذين يَفْرَحُونَ بما أَتَوْا} [آل عمران: 188] ثم قال {فلا تَحْسَبَنَّهُمْ} [آل عمران: 188] فرَدَّ «تَحْسَبَنَّ» مرتين، والمعنى: لا تَحْسَبَنَّ الذين يَفْرَحُونَ بمفازة من العذاب. وقال الزجاج: يجوز أن يكون في الكلام محذوف، تقديره: أفمن حَقَّ عليه كلمةُ العذاب فيتخلَّص منه أو ينجو، أفأنت تنقذه؟ قال المفسِّرون: أفأنت تخلّصه ممّا قُدِر له فتجعله مؤمناً؟ والمعنى: ما تقدر على ذلك. قال عطاء: يريد بهذه الآية: أبا لهب وولده ومن تخلَّف من عشيرة النبيّ صلى الله عليه وسلم عن الإِيمان. قوله تعالى: {لكِن الذين اتَّقَوا} وقرأ أبو المتوكل، وأبوجعفر: {لكِنَّ} بتشديد النون [وفتحها] قال الزجاج: والغُرَف هي: المنازل الرفيعة في الجنة، {مِنْ فَوْقِها غُرَفٌ} أي: منازل أرفع منها. {وَعْدَ اللهِ} منصوب على المصدر؛ فالمعنى: وعَدَهم اللهُ غُرَفاً وَعْداً. ومن قرأ: «وَعْدُ الله» بالرفع؛ فالمعنى: ذلك وَعْدُ اللهِ.
|